وبدءوا
تقسيم السنة إلى ثلاثة فصول في كل واحد منها أربعة شهور، أولها فصل ارتفاع
النيل وفيضه وانحساره، وثانيها فصل الزرع، وثالثها فصل الحصاد ، وكانت عدة
كل شهر من شهورهم ثلاثين يوما ؛ لأن هذا العدد هو أقرب الأعداد السهلة إلى
طول الشهر القمري الذي يبلغ تسعاً وعشرين يوماً ونصف يوم.
وكان لفظ الشهر في لغتهم كما هو في اللغة الإنجليزية مشتقاً من رمزهم للقمر .
وكانوا يضيفون بعد آخر الشهر الثاني عشر خمسة أيام حتى تتفق السنة في الحساب مع فيضان النهر ومع مواقع الشمس.
واختاروا لبدء السنة اليوم الذي يصل فيه النيل عادة إلى أقصى ارتفاعه
، والذي كانت فيه الشعرى العظيمة (وكانوا يسمونها سوثيس) تشرق مع الشمس في
وقت واحد ، ولما كان التقويم المصري يجعل السنة 365 يوما بدل 365 وربع،
فإن الفرق بين شروق الشعرى وشروق الشمس وهو الذي كان في أول الأمر صغيراً
لا يكاد يدرك قد ازداد حتى بلغ يوما كاملا في كل أربع سنين.
وبذلك كان التقويم المصري يختلف عن التقويم السماوي الحقيقي بست ساعات في كل عام.
ولم يصحح المصريون قط هذا الخطأ، حتى جاء فلكيو الإسكندرية اليونان
فأصلحوه بأمر يوليوس قيصر (في عام 46 ق. م) وذلك بإضافة يوم بعد كل أربع
سنين.
وهذا هو ما يسمونه التقويم اليوليوسي ، ثم صحح التقويم تصحيحاً أدق
في عصر البابا جريجوري الثالث عشر، وذلك بحذف هذا اليوم الزائد (وهو اليوم
التاسع والعشرين من فبراير) من السنين المتممة للمئات التي لا تقبل القسمة
على 400؛ وهذا هو "التقويم الجريجوري" الذي نستخدمه اليوم.
وجملة القول : إن تقويمنا في جوهره من وضع الشرق الأدنى القديم .
ولم يتقدم المصريون في دراسة جسد الإنسان تقدما يستحق الذكر رغم ما
أتاحه لهم فن التحنيط من فرص لهذه الدراسة ، فقد كانوا يظنون الأوعية
الدموية تحمل هواء وماء ونفايات من السوائل ، وكانوا يعتقدون أن القلب
والأمعاء مركز العقل.
ولعلنا إذا عرفنا ما كانوا يعتقدونه بهذا المصطلحات لا نجدهم يختلفون
عنا كثيراً في معتقداتنا الأكيدة التي لا نثبت عليها إلا قليلا ، ولكنهم
وصفوا بكثير من الدقة العظام الكبرى والأمعاء، وعرفوا أن القلب هو القوة
الدافعة في الكائنات الحية، وأنه مركز الدورة الدموية.
وقد جاء في بردية إيبرز أن "أوعيته تتفرع إلى جميع أعضاء الجسد،
فسواء وضع الطبيب إصبعه على جبهة الإنسان، أو على مؤخرة الرأس، أو على
اليدين... أو على القدمين فإنه يلتقي بالقلب في كل مكان".
ولم يكن بين هذا وبين أقوال ليوناردو وهارفي إلا خطوة واحدة- ولكنها خطوة تتطلب ثلاثة آلاف عام.
أما أكبر مفخرة علمية للمصريين فهي علم الطب ، وكان الكهنة هم
البادئين به كما أن فيه من الشواهد ما يدل على أن هذه البداية قد نبتت من
السحر.
وشأن الطب في هذا يكاد يكون شأن كل شيء آخر في حياة مصر الثقافية ،
وكانت التمائم أكثر شيوعاً بين الناس من حبوب الدواء لعلاج الأمراض أو
للوقاية منها.
وكان المرض في اعتقادهم هو تقمص الشياطين الجسم، وعلاجه هو تلاوة
العزائم؛ فقد كان الزكام مثلا يعالج بمثل هذه العبارات السحرية : "اخرج
أيها البرد يا ابن البرد، يا من تهشم العظام، وتتلف الجمجمة، وتمرض مخارج
الرأس السبعة. اخرج على الأرض. دفر. دفر. دفر!".
وأكبر الظن أن هذا علاج لا يقل في مفعوله عن أي علاج نعرفه اليوم لهذا المرض القديم.
ثم نرتفع في مصر من هذه الأعماق إلى الأطباء العظام والجراحين
والأخصائيين الذين ساروا في صناعة الطب على قانون أخلاقي ظل يتوارث جيلا
بعد جيل حتى وصل إلى القَسَم الذائع الصيت قسم أبقراط.
وكان من المصريين أخصائيون في التوليد وفي أمراض النساء؛ ومنهم من لم يكن يعالج إلا اضطرابات المعدة، ومنهم أطباء العيون.
وقد بلغ من شهرة هؤلاء أن قورش استدعى واحداً منهم إلى بلاد الفرس.
أولئك هم الأخصائيون، أما غير الأخصائيين منهم فقد ترك لهم جمع
الفتات بعد هؤلاء وعلاج الفقراء من الناس؛ وكان من عملهم فوق هذا أن
يحضروا أدهان الوجه، وصبغات الشعر، وتجميل الجلد، وأعضاء الجسم، ومبيدات
البراغيث.
وقد وصلت إلينا عدة برديات تبحث في الشئون الطبية ، وأعظمها قيمة بردية
أدون اسمث، وسميت كذلك نسبة إلى مستكشفها وهي ملف طوله خمسة عشر قدماً،
ويرجع تاريخها إلى عام 1600 ق. م تقريباً وتعتمد على مراجع أقدم منها
كثيراً.
وحتى لو ضربنا صفحاً عن هذه المراجع الأولى لظلت هذه البردية نفسها
أقدم وثيقة علمية معروفة في التاريخ ، وهي تصف ثماني وأربعين حالة من
حالات الجراحة التطبيقية ، تختلف من كسر في الجمجمة إلى إصابة النخاع
الشوكي.
وكل حالة من الحالات الواردة فيها مبحوثة بحثاً دقيقاً في نظام منطقي في
عناوين مرتبة من تشخيص ابتدائي مؤقت، وفحص، وبحث في الأعراض المشتركة بين
أمراض مختلفة، وتشخيص العلة، والاستدلال بأعراضها على عواقبها وطريقة
علاجها، ثم تعليقات على سطح المصطلحات العلمية الواردة فيها وشروح لها.
ويشير المؤلف في وضوح لا نجد له مثيلا قبل القرن الثامن عشر الميلادي إلى
أن المركز المسيطر على الطرفين السفليين من أطراف الجسم كائن في المخ.
"وتلك أول مرة يظهر فيها هذا اللفظ في عالم الأدب.
وكان المصريون يستمتعون بطائفة كبيرة من الأمراض المتنوعة، وإن كانوا
قد قضى عليهم أن يموتوا بها من غير أن يعرفوا أسماءها اليونانية ، وتحدثنا
بردياتهم وأجسامهم المحنطة عن تدرن النخاع الشوكي ، وتصلب الشرايين،
والحصوات الصفراوية، والجدري وشلل الأطفال، وفقر الدم، والتهاب المفاصل،
والصرع والنقرس، والتهاب النتوء الحلمي ، والتهاب الزائدة الدودية ..
وبعض الأمراض العجيبة كالالتهاب الفقري الأشوه، وما يعتري نمو كراديس
العظام الطويلة من نقص ، وليست لدينا دلائل تثبت إصابتهم بالزهري أو
السرطان ، ولكن تقيح اللثة ، وتسوس الأسنان ، وهما اللذان لا أثر لهما في
أقدم الجثث المحنطة القديمة يظهران بكثرة في الجثث المحنطة الباقية من
العهود المتأخرة ، وذلك دليل على تقدم الحضارة في هذه العهود.
وكان ضمور عظم الإصبع الصغرى من أصابع القدم وانعدامها- وهي حالة كثيراً
ما يعزى سببها إلى الأحذية الحديثة- من الحالات المنتشرة في مصر القديمة،
حيث كان الأهلون على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم يسيرون كلهم تقريبا حفاة.
وكان لدى الأطباء المصريين عدة وافية من القراباذينات (دساتير الأدوية)
لمقاومة هذه الأمراض كلها ، ففي بردية إيبرز ثبت بأسماء سبعمائة دواء لكل
الأدواء المعروفة، من عضة الأفعى إلى حمى النفاس.
وتصف بردية كاهون (ويرجع عهدها إلى حوالي عام 1850 ق.م) أقماع اللبوس ، ولعلها كانت تستخدم لمنع الحمل.
وقد عثر في قبر إحدى ملكات الأسرة الحادية عشرة على صندوق للأدوية يحتوي على مزهريات، وملاعق، وعقاقير جافة، وجذور.
وكانت الوصفات الطبية تتذبذب بين الطب والسحر.
وكان مفعول الخليط في رأيهم يتناسب مع اشمئزاز النفس منه ، ومما تصفه
تذاكر الأطباء دم العظاية (السحلية) وأذن الخنزير وأسنانه، واللحم والدهن
النتن، ومخ السلحفاة، وكتاب قديم مقلي في الزيت، ولبن النفساء، وماء
المرأة الطاهرة، وبراز الرجال والحمير والكلاب والآساد والقطط والقمل- كل
هذه واردة في تذاكر الأطباء.
وكان الصلع يعالج بتدليك الرأس بدهن الحيوان ، وقد انتقلت بعض هذه الوسائل
العلاجية من المصريين إلى اليونان، ثم انتقلت من اليونان إلى الرومان، ومن
الرومان إلينا ، ولا نزال إلى اليوم نتجرع في ثقة واطمئنان كثيراً من
الأدوية التي خلطها وجهزها لنا المصريون على شاطئ النيل في أقدم الأزمان.
ولقد حاول مصريون أن يحافظوا على صحة أجسامهم باتباع الوسائل الصحية
العامة، وبختان الذكور ، وبتعويد الناس أن يكثروا من استخدام الحقن
الشرجية ، ويقول ديودور الصقلي في هذا المعنى:
وهم يتقون الأمراض بالمحافظة على صحة أجسامهم ، وذلك باستخدام الملينات
وبالصوم وبالمقيئات، كل يوم في بعض الأحيان ، وكل ثلاثة أيام أو أربعة في
البعض الآخر ، وذلك لأنهم يقولون : إن الجزء الأكبر مما يخل في الجسم من
طعام يزيد على حاجته، وإن الأمراض إنما تنشأ من هذا القدر الزائد .
ويعتقد بلنى أن المصريين قد تعلموا عادة استخدام الحقن الشرجية من الطائر
المعروف "بأبي منجل" وهو طائر يقاوم الإمساك الناشئ من طبيعة ما يتناوله
من الطعام بإدخال منقاره الطويل في دبره واستخدامه كالمحقن.
ويروي هيرودوت أن المصريين كانوا "يطهرون أجسامهم مرة في كل أشهر
ثلاثة أيام متوالية، ويعملون على حفظ صحتهم بالمقيئات والحقن الشرجية،
لأنهم يظنون أن جميع ما يصيب الناس من الأمراض إنما ينشأ مما يأكلون من
الطعام".
وهذا المؤرخ- وهو أول مؤرخ للحضارة- يصف المصريين بأنهم بعد اللوبيين أصح شعوب العالم أجساماً...
تقسيم السنة إلى ثلاثة فصول في كل واحد منها أربعة شهور، أولها فصل ارتفاع
النيل وفيضه وانحساره، وثانيها فصل الزرع، وثالثها فصل الحصاد ، وكانت عدة
كل شهر من شهورهم ثلاثين يوما ؛ لأن هذا العدد هو أقرب الأعداد السهلة إلى
طول الشهر القمري الذي يبلغ تسعاً وعشرين يوماً ونصف يوم.
وكان لفظ الشهر في لغتهم كما هو في اللغة الإنجليزية مشتقاً من رمزهم للقمر .
وكانوا يضيفون بعد آخر الشهر الثاني عشر خمسة أيام حتى تتفق السنة في الحساب مع فيضان النهر ومع مواقع الشمس.
واختاروا لبدء السنة اليوم الذي يصل فيه النيل عادة إلى أقصى ارتفاعه
، والذي كانت فيه الشعرى العظيمة (وكانوا يسمونها سوثيس) تشرق مع الشمس في
وقت واحد ، ولما كان التقويم المصري يجعل السنة 365 يوما بدل 365 وربع،
فإن الفرق بين شروق الشعرى وشروق الشمس وهو الذي كان في أول الأمر صغيراً
لا يكاد يدرك قد ازداد حتى بلغ يوما كاملا في كل أربع سنين.
وبذلك كان التقويم المصري يختلف عن التقويم السماوي الحقيقي بست ساعات في كل عام.
ولم يصحح المصريون قط هذا الخطأ، حتى جاء فلكيو الإسكندرية اليونان
فأصلحوه بأمر يوليوس قيصر (في عام 46 ق. م) وذلك بإضافة يوم بعد كل أربع
سنين.
وهذا هو ما يسمونه التقويم اليوليوسي ، ثم صحح التقويم تصحيحاً أدق
في عصر البابا جريجوري الثالث عشر، وذلك بحذف هذا اليوم الزائد (وهو اليوم
التاسع والعشرين من فبراير) من السنين المتممة للمئات التي لا تقبل القسمة
على 400؛ وهذا هو "التقويم الجريجوري" الذي نستخدمه اليوم.
وجملة القول : إن تقويمنا في جوهره من وضع الشرق الأدنى القديم .
ولم يتقدم المصريون في دراسة جسد الإنسان تقدما يستحق الذكر رغم ما
أتاحه لهم فن التحنيط من فرص لهذه الدراسة ، فقد كانوا يظنون الأوعية
الدموية تحمل هواء وماء ونفايات من السوائل ، وكانوا يعتقدون أن القلب
والأمعاء مركز العقل.
ولعلنا إذا عرفنا ما كانوا يعتقدونه بهذا المصطلحات لا نجدهم يختلفون
عنا كثيراً في معتقداتنا الأكيدة التي لا نثبت عليها إلا قليلا ، ولكنهم
وصفوا بكثير من الدقة العظام الكبرى والأمعاء، وعرفوا أن القلب هو القوة
الدافعة في الكائنات الحية، وأنه مركز الدورة الدموية.
وقد جاء في بردية إيبرز أن "أوعيته تتفرع إلى جميع أعضاء الجسد،
فسواء وضع الطبيب إصبعه على جبهة الإنسان، أو على مؤخرة الرأس، أو على
اليدين... أو على القدمين فإنه يلتقي بالقلب في كل مكان".
ولم يكن بين هذا وبين أقوال ليوناردو وهارفي إلا خطوة واحدة- ولكنها خطوة تتطلب ثلاثة آلاف عام.
أما أكبر مفخرة علمية للمصريين فهي علم الطب ، وكان الكهنة هم
البادئين به كما أن فيه من الشواهد ما يدل على أن هذه البداية قد نبتت من
السحر.
وشأن الطب في هذا يكاد يكون شأن كل شيء آخر في حياة مصر الثقافية ،
وكانت التمائم أكثر شيوعاً بين الناس من حبوب الدواء لعلاج الأمراض أو
للوقاية منها.
وكان المرض في اعتقادهم هو تقمص الشياطين الجسم، وعلاجه هو تلاوة
العزائم؛ فقد كان الزكام مثلا يعالج بمثل هذه العبارات السحرية : "اخرج
أيها البرد يا ابن البرد، يا من تهشم العظام، وتتلف الجمجمة، وتمرض مخارج
الرأس السبعة. اخرج على الأرض. دفر. دفر. دفر!".
وأكبر الظن أن هذا علاج لا يقل في مفعوله عن أي علاج نعرفه اليوم لهذا المرض القديم.
ثم نرتفع في مصر من هذه الأعماق إلى الأطباء العظام والجراحين
والأخصائيين الذين ساروا في صناعة الطب على قانون أخلاقي ظل يتوارث جيلا
بعد جيل حتى وصل إلى القَسَم الذائع الصيت قسم أبقراط.
وكان من المصريين أخصائيون في التوليد وفي أمراض النساء؛ ومنهم من لم يكن يعالج إلا اضطرابات المعدة، ومنهم أطباء العيون.
وقد بلغ من شهرة هؤلاء أن قورش استدعى واحداً منهم إلى بلاد الفرس.
أولئك هم الأخصائيون، أما غير الأخصائيين منهم فقد ترك لهم جمع
الفتات بعد هؤلاء وعلاج الفقراء من الناس؛ وكان من عملهم فوق هذا أن
يحضروا أدهان الوجه، وصبغات الشعر، وتجميل الجلد، وأعضاء الجسم، ومبيدات
البراغيث.
وقد وصلت إلينا عدة برديات تبحث في الشئون الطبية ، وأعظمها قيمة بردية
أدون اسمث، وسميت كذلك نسبة إلى مستكشفها وهي ملف طوله خمسة عشر قدماً،
ويرجع تاريخها إلى عام 1600 ق. م تقريباً وتعتمد على مراجع أقدم منها
كثيراً.
وحتى لو ضربنا صفحاً عن هذه المراجع الأولى لظلت هذه البردية نفسها
أقدم وثيقة علمية معروفة في التاريخ ، وهي تصف ثماني وأربعين حالة من
حالات الجراحة التطبيقية ، تختلف من كسر في الجمجمة إلى إصابة النخاع
الشوكي.
وكل حالة من الحالات الواردة فيها مبحوثة بحثاً دقيقاً في نظام منطقي في
عناوين مرتبة من تشخيص ابتدائي مؤقت، وفحص، وبحث في الأعراض المشتركة بين
أمراض مختلفة، وتشخيص العلة، والاستدلال بأعراضها على عواقبها وطريقة
علاجها، ثم تعليقات على سطح المصطلحات العلمية الواردة فيها وشروح لها.
ويشير المؤلف في وضوح لا نجد له مثيلا قبل القرن الثامن عشر الميلادي إلى
أن المركز المسيطر على الطرفين السفليين من أطراف الجسم كائن في المخ.
"وتلك أول مرة يظهر فيها هذا اللفظ في عالم الأدب.
وكان المصريون يستمتعون بطائفة كبيرة من الأمراض المتنوعة، وإن كانوا
قد قضى عليهم أن يموتوا بها من غير أن يعرفوا أسماءها اليونانية ، وتحدثنا
بردياتهم وأجسامهم المحنطة عن تدرن النخاع الشوكي ، وتصلب الشرايين،
والحصوات الصفراوية، والجدري وشلل الأطفال، وفقر الدم، والتهاب المفاصل،
والصرع والنقرس، والتهاب النتوء الحلمي ، والتهاب الزائدة الدودية ..
وبعض الأمراض العجيبة كالالتهاب الفقري الأشوه، وما يعتري نمو كراديس
العظام الطويلة من نقص ، وليست لدينا دلائل تثبت إصابتهم بالزهري أو
السرطان ، ولكن تقيح اللثة ، وتسوس الأسنان ، وهما اللذان لا أثر لهما في
أقدم الجثث المحنطة القديمة يظهران بكثرة في الجثث المحنطة الباقية من
العهود المتأخرة ، وذلك دليل على تقدم الحضارة في هذه العهود.
وكان ضمور عظم الإصبع الصغرى من أصابع القدم وانعدامها- وهي حالة كثيراً
ما يعزى سببها إلى الأحذية الحديثة- من الحالات المنتشرة في مصر القديمة،
حيث كان الأهلون على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم يسيرون كلهم تقريبا حفاة.
وكان لدى الأطباء المصريين عدة وافية من القراباذينات (دساتير الأدوية)
لمقاومة هذه الأمراض كلها ، ففي بردية إيبرز ثبت بأسماء سبعمائة دواء لكل
الأدواء المعروفة، من عضة الأفعى إلى حمى النفاس.
وتصف بردية كاهون (ويرجع عهدها إلى حوالي عام 1850 ق.م) أقماع اللبوس ، ولعلها كانت تستخدم لمنع الحمل.
وقد عثر في قبر إحدى ملكات الأسرة الحادية عشرة على صندوق للأدوية يحتوي على مزهريات، وملاعق، وعقاقير جافة، وجذور.
وكانت الوصفات الطبية تتذبذب بين الطب والسحر.
وكان مفعول الخليط في رأيهم يتناسب مع اشمئزاز النفس منه ، ومما تصفه
تذاكر الأطباء دم العظاية (السحلية) وأذن الخنزير وأسنانه، واللحم والدهن
النتن، ومخ السلحفاة، وكتاب قديم مقلي في الزيت، ولبن النفساء، وماء
المرأة الطاهرة، وبراز الرجال والحمير والكلاب والآساد والقطط والقمل- كل
هذه واردة في تذاكر الأطباء.
وكان الصلع يعالج بتدليك الرأس بدهن الحيوان ، وقد انتقلت بعض هذه الوسائل
العلاجية من المصريين إلى اليونان، ثم انتقلت من اليونان إلى الرومان، ومن
الرومان إلينا ، ولا نزال إلى اليوم نتجرع في ثقة واطمئنان كثيراً من
الأدوية التي خلطها وجهزها لنا المصريون على شاطئ النيل في أقدم الأزمان.
ولقد حاول مصريون أن يحافظوا على صحة أجسامهم باتباع الوسائل الصحية
العامة، وبختان الذكور ، وبتعويد الناس أن يكثروا من استخدام الحقن
الشرجية ، ويقول ديودور الصقلي في هذا المعنى:
وهم يتقون الأمراض بالمحافظة على صحة أجسامهم ، وذلك باستخدام الملينات
وبالصوم وبالمقيئات، كل يوم في بعض الأحيان ، وكل ثلاثة أيام أو أربعة في
البعض الآخر ، وذلك لأنهم يقولون : إن الجزء الأكبر مما يخل في الجسم من
طعام يزيد على حاجته، وإن الأمراض إنما تنشأ من هذا القدر الزائد .
ويعتقد بلنى أن المصريين قد تعلموا عادة استخدام الحقن الشرجية من الطائر
المعروف "بأبي منجل" وهو طائر يقاوم الإمساك الناشئ من طبيعة ما يتناوله
من الطعام بإدخال منقاره الطويل في دبره واستخدامه كالمحقن.
ويروي هيرودوت أن المصريين كانوا "يطهرون أجسامهم مرة في كل أشهر
ثلاثة أيام متوالية، ويعملون على حفظ صحتهم بالمقيئات والحقن الشرجية،
لأنهم يظنون أن جميع ما يصيب الناس من الأمراض إنما ينشأ مما يأكلون من
الطعام".
وهذا المؤرخ- وهو أول مؤرخ للحضارة- يصف المصريين بأنهم بعد اللوبيين أصح شعوب العالم أجساماً...