بعض البلدان بحكام شكسبيريين، «نجحوا» في تحقيق الاكتفاء الذاتي في القمع
وبدؤوا في تصدير الفائض بالنسبة إلى حرية التعبير والصحافة، ومتابعة جرائد
وصحافيين في بلدان أخرى؛ ونحن هنا نتحدث عن القمع وليس عن محاصيل القمح
طبعا. وبدأ هذا الصنف من الحكام يتساءل صباح مساء: «أن أكون (وحدي) أو لا
أكون، فتلك هي المسألة الحقيقية، أنا وحدي ومن بعدي الطوفان».
وكانت إحدى شخصيات شكسبير قد نصحتنا بأن نحرص على ألاّ تظل حماقات
هذا النوع من الحاكمين بلا رقابة، خصوصا وأن بعضهم يرى في حماقاته عبقرية
فذّة لا تُضاهى. والمثير أن التاريخ يملك من المكر والخُبث ما يكفي لكي
يعيد نفسه باستمرار وكأن عقارب ساعته توقفت عند «نيرون» الذي أحرق روما
ومعها رجال المطافئ وهو يعزف على قيثارته، أو عند «كاليغولا» الذي عيّن
حصانه نائبا في البرلمان، هذه هي التبوريدة وإلاّ فَلاَ، أو عند «هُولاكو»
و«جنكيزخان» اللذين أحرقا بغداد ودفنا آلاف الكتب تحت مياه دجلة والفرات.
وهي كلها وقائع تذكرنا، اليوم، بدعوة الإسرائيلي الفيدور الروسي سابقا،
أفيكدور ليبرمان، إلى تدمير السّد العالي وإغراق المدن والقرى المصرية في
مياه النيل، كما تذكرنا بكل من يستأسد على الشعب وهو في الحروب نعامة ـ مع
الاعتذار إلى النعامة عن هذه السمعة التي ألصقها بها بنو البشر ولم يسبق
لها أن دفنت رأسها في الرمال أبدا ولم تحلق بأجنحتها العريضة أبدا، وليس
كل طائر يطير، ولكن كاين شي بنادم كيطيرو بها فالسما أُو بلا جناوح، وكل
من يعتبر شعبه عدوا له، فبالإضافة إلى الإجراءات القمعية والزّجرية، هناك
حرب شعواء ضد كل ما يضمن للنسيج السياسي أن ينجوَ من التّمييع والتبخيس
واختلاط الأجناس إلى درجة يدوخ فيها المرء ويعجز معها عن التمييز، بحيث
يجد نفسه أمام أوركسترا تعزف لحنا واحدا، لكن بآلات موسيقية مختلفة
الأحجام. وبعد أن تكتمل حلقات هذه الخطة بتوزيع الأدوار، يتم التفرغ تماما
من أجل فرض الحصار على النغمات «النشار» وعلى كل الأصوات التي تحلق خارج
السّرب أو تحلم أحلاما لا تحظى بخاتم السلطات ولا تطابق لائحة الأحلام
المسموح بها والمنشورة بالجريدة الرسمية. وقد اقترح البعض على شعبه أن
يعفيه تماما من مشقة أحلام اليقظة (واه تحلم بعينيك خارجين) بأن ينوبوا
عنه في ذلك، تفاديا لتسرب الأحلام «المهربة» و«الدخيلة» إلى الأذهان
والقلوب، وما ينتج عن ذلك من «سيبة» وخراب ودمار.
إنه الحلم بالوكالة، إذ ما أجمل البلاد حين تراها بأعينهم مُجَردة من
كل الشوائب والمظاهر المعِيبة، ومن كل الحالات اللّي كتشفي العديان، ومن
الاختلالات البنيوية العميقة. إنها الوصاية حين يتحكم أصحاب الحلم الرسمي
البنّاء في البر والبحر والجو وفي دواليب السياسة والاقتصاد والثقافة
والفنون، وإنها لمنتهى العبقرية والدّهاء أن نمارس الديكتاتورية باسم
الديمقراطية كما في بعض البلدان «الناشئة»، ونمارس التنكيل بالحريات والحق
في الاختلاف باسم الحرص على حقوق الإنسان، ونعتقل كل من شكّك في جهود
«الدولة» وكل من خامرته الظنون الهدامة في حسن نواياها وغيرتها على
مصالحها، حتى لو ساد التباس كبير بأن مصالحهم هي نفسها مصالح «الدولة»
والعكس صحيح في كل الأحوال، ولم يكن لويس الرّابع عشر في حاجة إلى كل هذه
التنظيرات والاجتهادات حين اختزل الموقف: «أنا هو الدولة!».
« l’Etat, c’est Moi»