الأهرام.. رحلة مؤسسة
(في ذكرى صدورها: 5 اغسطس )
تعد جريدة الأهرام أعرق وأقدم جريدة عربية ما زالت مستمرة حتى الآن، رغم مرور أكثر من مائة عام على مولدها بالإسكندرية. وقد عاصرت هذه الجريدة العريقة ثلاثة قرون، ولدت في أحدها، وعاشت في الآخر، وما زالت مستمرة في الثالث، بفضل تقاليد أرساها الآباء المؤسسون لها، وسار على هداها من جاء بعدهم، وهو ما كفل لها الحياة في كل العصور، والتعايش مع كل الأنظمة، بأسلوب متزن غلّب فيه روادها الأوائل تقاليدَ المهنة وأصول العمل الصحفي على أثواب الحزبية والمذهبية والأيدولوجية والالتصاق المبالغ فيه بالسلطة، وهو ما حقق لها الصمود أمام عاديات الزمن، وتقلب الأنظمة، وغياب الحرية الذي عانت الصحافة منه طويلا.
واستطاعت الأهرام بفضل هذه السياسة الإبحار وسط الأمواج العاتية، وهي تدرك أن فهم متطلبات العصر وإجادة التعامل معها، هو السر الدفين الذي كفل لها البقاء، والحكمة التي افتقدتها كثير من الصحف التي كانت أعلى صوتا، وأكثر توزيعا ولكنها قبرت مع وفاة مؤسسيها؛ فصارت أثرا بعد عين، وتاريخا يُستدعى من باطن الأرشيف الذي يعلوه الغبار.
الأهرام.. ديوان الحياة
وصف الدكتور طه حسين الأهرام بأنها "ديوان الحياة المعاصرة"؛ فالأهرام ليست صحيفة امتد بها العمر حتى شاخت ووصلت من الحياة إلى أرذل العمر، ولكن مرور الزمن كان يزيدها أصالة، ومن ثم فهي صحيفة تحمل على ظهرها تاريخا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، محليا ودوليا؛ فشمولها للأحداث جعلها ديوانا للأحداث بلغة عصرها وانفعالاته واهتماماته.
وتشير بعض الدراسات التاريخية إلى أن ظهور الصحافة قد أدى إلى القضاء على مرحلة في التأريخ تسمى بـ"الكتابة الإخبارية"، وهي الكتابة التي تقوم على تتبع الأخبار وفقا لتسلسلها الزمني، وكان آخر كتابين في هذا الفن من التأريخ قد ظهرا قبل مولد الأهرام بقليل، وهما "الكافي في تاريخ مصر القديم والحديث" لميخائيل شاروبيم، و"حقائق الأخبار في دول البحار" لإسماعيل سرهنك، ثم جاءت الصحافة -وعلى رأسها الأهرام- واحتلت مكانة التأريخ الإخباري دون منازع، فكانت مرحلة فارقة في التدوين التأريخي.
.. رحلة حياة
ولدت الأهرام بالإسكندرية في شارع البورصة المتفرع من ميدان القناصل (المنشية حاليا) في يوم السبت (15 من رجب 1293هـ = 5 من أغسطس 1876م) على يد الأخوين الشاميين: بشارة تقلا وسليم تقلا، وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت تعج بالأوروبيين والشوام، كما كانت أحد المراكز التجارية المهمة على البحر المتوسط.
وقد بدأت الأهرام في الصدور أسبوعيا، وتعهد مؤسسها بعدم الخوض مطلقا في "الشئون البولوتيقية" أي الشئون السياسية، غير أنه لم يستطع الوفاء بهذا التعهد، وهو ما عرّضه للاصطدام مع السلطة.
في عددها الأول دعت الجريدة "أصحاب الأقلام البليغة أن يزينوا من وقت لآخر الجريدة بما يسطرونه من بديع الكتابة والحكم والفوائد التي يلتذ باجتنائها كل ذي ذوق سليم"، ولم يمض وقت طويل حتى اجتذبت صفحات الأهرام كُتابا من ذوي الرأي كتبوا على صفحاتها، ومنهم الإمام محمد عبده الذي كان حينئذ أحد مجاوري الأزهر، وكتب في البدايات عن "التمدن البشري".
اختارت الأهرام يوم السبت لصدورها الأسبوعي، لكن صعوبة وصول الجريدة إلى الشام في وقت مبكر نسبيا -نظرا لبعض الأمور الملاحية- جعلها تصدر يوم الجمعة في بعض الأحيان، وبعد مرور نحو شهرين على صدور الأهرام أصدر الأخوان "تقلا" جريدة يومية تسمى "صدى الأهرام" في (21 من رمضان 1293هـ = 10 من أكتوبر 1876م)، وهي تعد أول جريدة يومية تصدر في مصر.
وكانت الأهرام الأسبوعية قد بدأت بأربع صفحات، يبلغ طول الصفحة 43 سم، وعرضها 30 سم، واستخدمت في بدايتها خطا كبيرا في الكتابة، ثم تحولت إلى خط أصغر؛ لتتمكن من نشر أكبر كمية من الموضوعات، وركزت اهتمامها على الأخبار الخارجية؛ إذ عاصرت الجريدة في تلك الفترة الحرب التركية- الروسية، وكانت ميالة في تغطيتها للدولة العثمانية.
أفسحت الأهرام الأسبوعية صفحاتها لمقالات الإمام محمد عبده الإصلاحية، ومقالات "جمال الدين الأفغاني"، و"جمعية الأحباء" التي رأسها "يعقوب صنوع"، والتي طالبت بالعناية بالتربية والتعليم.
استحدثت الأهرام في تلك الفترة المبكرة سنة (1297هـ = 1879م) بعض الفنون الصحفية التي لم تكن تعرفها الصحافة المصرية، ومنها "الحديث الصحفي" مع كبار السياسيين ورجال الفكر، وكان من أبرز تلك الأحاديث الحوار الذي أجراه "بشارة تقلا" مع الخديوي إسماعيل، وهو ما غير النظرة للصحافة التي كان ينظر إليها على أنها "حرفة دنيئة"!. كما قام بشارة بأول "رحلة صحفية" يقوم بها مندوب للأهرام، في عام (1298هـ = 1880م) وكانت إلى بلاد الشام.
أولت الأهرام في بداية نشأتها اهتمامها الأكبر إلى الأحداث الخارجية، وكان اهتمامها بالأحداث المحلية قليلا، ولعل ذلك يرجع إلى طبيعة الترخيص الذي حصلت عليه لصدورها، وهو ما جعلها ترسل وكلاء لها في 12 مدينة بالشام، في حين لم يتعد وكلاؤها في مصر 6 فقط، ورغم ذلك فقد أدرك مؤسسوها أنه لا بد من ضخ الدماء المصرية في الجريدة حتى تستطيع الاستمرار والبقاء والمنافسة.
وقد كانت الأهرام منذ صدورها الأسبوعي تهتم بالأخبار الرصينة، وتمتنع عن التوافه، وكان سليم تقلا يرى في الصحافة رسالة ووظيفة تأبى على حاملها أن يزل في لفظ أو يخطئ في تعبير؛ لذلك كان يأنف الطعن في الأشخاص والهيئات، ويتحرى الدقة فيما ينشر.
وكان أسلوب الأهرام أكثر سلاسة ووضوحا من الصحف المعاصرة لها؛ إذ استطاع سليم وبشارة -وكانا من ذوي الثقافة الفرنسية، ويمتلكان حظا وافرا من الثقافة والبيان العربي- أن يشقا للأهرام وللصحافة المصرية والعربية أسلوبا جديدا في الكتابة الصحفية، يبتعد عن السجع وأساليب الكتابة الإنشائية التقليدية، واعتمدا على اللغة الرصينة السهلة التي تلائم طبيعة الصحافة السيارة التي تخاطب القراء على اختلاف ثقافاتهم.
(في ذكرى صدورها: 5 اغسطس )
تعد جريدة الأهرام أعرق وأقدم جريدة عربية ما زالت مستمرة حتى الآن، رغم مرور أكثر من مائة عام على مولدها بالإسكندرية. وقد عاصرت هذه الجريدة العريقة ثلاثة قرون، ولدت في أحدها، وعاشت في الآخر، وما زالت مستمرة في الثالث، بفضل تقاليد أرساها الآباء المؤسسون لها، وسار على هداها من جاء بعدهم، وهو ما كفل لها الحياة في كل العصور، والتعايش مع كل الأنظمة، بأسلوب متزن غلّب فيه روادها الأوائل تقاليدَ المهنة وأصول العمل الصحفي على أثواب الحزبية والمذهبية والأيدولوجية والالتصاق المبالغ فيه بالسلطة، وهو ما حقق لها الصمود أمام عاديات الزمن، وتقلب الأنظمة، وغياب الحرية الذي عانت الصحافة منه طويلا.
واستطاعت الأهرام بفضل هذه السياسة الإبحار وسط الأمواج العاتية، وهي تدرك أن فهم متطلبات العصر وإجادة التعامل معها، هو السر الدفين الذي كفل لها البقاء، والحكمة التي افتقدتها كثير من الصحف التي كانت أعلى صوتا، وأكثر توزيعا ولكنها قبرت مع وفاة مؤسسيها؛ فصارت أثرا بعد عين، وتاريخا يُستدعى من باطن الأرشيف الذي يعلوه الغبار.
الأهرام.. ديوان الحياة
وصف الدكتور طه حسين الأهرام بأنها "ديوان الحياة المعاصرة"؛ فالأهرام ليست صحيفة امتد بها العمر حتى شاخت ووصلت من الحياة إلى أرذل العمر، ولكن مرور الزمن كان يزيدها أصالة، ومن ثم فهي صحيفة تحمل على ظهرها تاريخا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، محليا ودوليا؛ فشمولها للأحداث جعلها ديوانا للأحداث بلغة عصرها وانفعالاته واهتماماته.
وتشير بعض الدراسات التاريخية إلى أن ظهور الصحافة قد أدى إلى القضاء على مرحلة في التأريخ تسمى بـ"الكتابة الإخبارية"، وهي الكتابة التي تقوم على تتبع الأخبار وفقا لتسلسلها الزمني، وكان آخر كتابين في هذا الفن من التأريخ قد ظهرا قبل مولد الأهرام بقليل، وهما "الكافي في تاريخ مصر القديم والحديث" لميخائيل شاروبيم، و"حقائق الأخبار في دول البحار" لإسماعيل سرهنك، ثم جاءت الصحافة -وعلى رأسها الأهرام- واحتلت مكانة التأريخ الإخباري دون منازع، فكانت مرحلة فارقة في التدوين التأريخي.
.. رحلة حياة
ولدت الأهرام بالإسكندرية في شارع البورصة المتفرع من ميدان القناصل (المنشية حاليا) في يوم السبت (15 من رجب 1293هـ = 5 من أغسطس 1876م) على يد الأخوين الشاميين: بشارة تقلا وسليم تقلا، وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت تعج بالأوروبيين والشوام، كما كانت أحد المراكز التجارية المهمة على البحر المتوسط.
وقد بدأت الأهرام في الصدور أسبوعيا، وتعهد مؤسسها بعدم الخوض مطلقا في "الشئون البولوتيقية" أي الشئون السياسية، غير أنه لم يستطع الوفاء بهذا التعهد، وهو ما عرّضه للاصطدام مع السلطة.
في عددها الأول دعت الجريدة "أصحاب الأقلام البليغة أن يزينوا من وقت لآخر الجريدة بما يسطرونه من بديع الكتابة والحكم والفوائد التي يلتذ باجتنائها كل ذي ذوق سليم"، ولم يمض وقت طويل حتى اجتذبت صفحات الأهرام كُتابا من ذوي الرأي كتبوا على صفحاتها، ومنهم الإمام محمد عبده الذي كان حينئذ أحد مجاوري الأزهر، وكتب في البدايات عن "التمدن البشري".
اختارت الأهرام يوم السبت لصدورها الأسبوعي، لكن صعوبة وصول الجريدة إلى الشام في وقت مبكر نسبيا -نظرا لبعض الأمور الملاحية- جعلها تصدر يوم الجمعة في بعض الأحيان، وبعد مرور نحو شهرين على صدور الأهرام أصدر الأخوان "تقلا" جريدة يومية تسمى "صدى الأهرام" في (21 من رمضان 1293هـ = 10 من أكتوبر 1876م)، وهي تعد أول جريدة يومية تصدر في مصر.
وكانت الأهرام الأسبوعية قد بدأت بأربع صفحات، يبلغ طول الصفحة 43 سم، وعرضها 30 سم، واستخدمت في بدايتها خطا كبيرا في الكتابة، ثم تحولت إلى خط أصغر؛ لتتمكن من نشر أكبر كمية من الموضوعات، وركزت اهتمامها على الأخبار الخارجية؛ إذ عاصرت الجريدة في تلك الفترة الحرب التركية- الروسية، وكانت ميالة في تغطيتها للدولة العثمانية.
أفسحت الأهرام الأسبوعية صفحاتها لمقالات الإمام محمد عبده الإصلاحية، ومقالات "جمال الدين الأفغاني"، و"جمعية الأحباء" التي رأسها "يعقوب صنوع"، والتي طالبت بالعناية بالتربية والتعليم.
استحدثت الأهرام في تلك الفترة المبكرة سنة (1297هـ = 1879م) بعض الفنون الصحفية التي لم تكن تعرفها الصحافة المصرية، ومنها "الحديث الصحفي" مع كبار السياسيين ورجال الفكر، وكان من أبرز تلك الأحاديث الحوار الذي أجراه "بشارة تقلا" مع الخديوي إسماعيل، وهو ما غير النظرة للصحافة التي كان ينظر إليها على أنها "حرفة دنيئة"!. كما قام بشارة بأول "رحلة صحفية" يقوم بها مندوب للأهرام، في عام (1298هـ = 1880م) وكانت إلى بلاد الشام.
أولت الأهرام في بداية نشأتها اهتمامها الأكبر إلى الأحداث الخارجية، وكان اهتمامها بالأحداث المحلية قليلا، ولعل ذلك يرجع إلى طبيعة الترخيص الذي حصلت عليه لصدورها، وهو ما جعلها ترسل وكلاء لها في 12 مدينة بالشام، في حين لم يتعد وكلاؤها في مصر 6 فقط، ورغم ذلك فقد أدرك مؤسسوها أنه لا بد من ضخ الدماء المصرية في الجريدة حتى تستطيع الاستمرار والبقاء والمنافسة.
وقد كانت الأهرام منذ صدورها الأسبوعي تهتم بالأخبار الرصينة، وتمتنع عن التوافه، وكان سليم تقلا يرى في الصحافة رسالة ووظيفة تأبى على حاملها أن يزل في لفظ أو يخطئ في تعبير؛ لذلك كان يأنف الطعن في الأشخاص والهيئات، ويتحرى الدقة فيما ينشر.
وكان أسلوب الأهرام أكثر سلاسة ووضوحا من الصحف المعاصرة لها؛ إذ استطاع سليم وبشارة -وكانا من ذوي الثقافة الفرنسية، ويمتلكان حظا وافرا من الثقافة والبيان العربي- أن يشقا للأهرام وللصحافة المصرية والعربية أسلوبا جديدا في الكتابة الصحفية، يبتعد عن السجع وأساليب الكتابة الإنشائية التقليدية، واعتمدا على اللغة الرصينة السهلة التي تلائم طبيعة الصحافة السيارة التي تخاطب القراء على اختلاف ثقافاتهم.
منقووووووووووووووول
من
http://www.islamonline.net/Arabic/history/1422/10/article34.shtml