محمد إقبال(يا ولدي كن برعمًا في غصن المصطفى، وكن وردة من نسيم
ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب).
في (سيالكوت) تلك المدينة التي تقع بإقليم (البنجاب) بالهند، وُلِد (محمد إقبال) عام 1294هـ/1877م، وتفتحت عيناه على مناظر بلاده الجميلة، فالأنهار الجارية تنحدر بين التلال، والعشب الأخضر يملأ الأرض ويكسوها بهاء وجلالاً.
ينتمي محمد إقبال إلى أسرة هندوكية من البراهمة، وهي جماعة لها شأن كبير في الهند رغم أنها تعبد الأصنام وتقدس التماثيل، لكن أسرة
محمد إقبال تنازلت عن كل هذه العظمة، لتدخل في دين الإسلام الذي لا يفرق بين أبيض وأسود و أصفر أو أحمر إلا بالتقوى، وأصبح الجد الأكبر لمحمد إقبال واسمه (بنديت) فردًا عاديًا لا يدَّعي الألوهية كما يفعل البراهمة!! بعد أن هداه الله على يد أحد رجال الإسلام في (كشمير) وأنجبت الأسرة التي كانت بالأمس القريب تعبد الأصنام وتحتقر الآخرين (محمد إقبال) فيلسوف الإسلام الكبير
وشاعره، وفضلت الإسلام مع الفقر على عبادة الأصنام مع الغني والعظمة.
ونشأ إقبال في بيت طاهر لأبويين تقيين؛ فكانت أمه نموذجًا رائعًا للتقوى والورع والالتزام بتعاليم الإسلام، أما والده(محمد نور إقبال) فكان صوفيًّا زاهدًا، تدمع عيناه خوفًا كلما ذكرت الجنة
والنار، وكلما سمع عن يوم الحساب، والناس كلهم وقوف أمام الله عز وجل ليحاسبوا عما قدموه في حياتهم الدنيا من خير أو شر.
وكان هذا الوالد التقي هو المعلم الأول لمحمد إقبال، فقد حثَّه على قراءة القرآن وحفظه وتدبره منذ صغره، وكان يقول له كلما رآه يكثر من قراءة القرآن: إن أردت أن تفقه القرآن فاقرأه كأنه أنزل عليك، فأخذ إقبال منذ ذلك الحين يتدبر آيات القرآن الكريم، ويتفهم معانيه ويغوص في بحار علومه؛ حتى انطبع نور القرآن في قلبه، وفاض على لسانه، وأصبح دليله ومرشده في جميع خطوات حياته.
وقد ربَّي محمد نور الدين إقبال ولده (محمدًا) تربية إسلامية سليمة تعتمد على الكتاب والسنة والقدوة الحسنة، فكان يوقظ طفله الصغير ليصلى صلاة الفجر كل يوم، وكان يرشده دائمًا لعمل الخير والابتعاد عن الشر.. حكى إقبال في كتاباته قصة جليلة عن والده تكشف عن عمق إيمان الأب وعن أسلوب التربية الإسلامية الحقَّة، قال:
(جاء سائل، فطرق بابنا بعنف، فضربته بعصا على رأسه، فتناثر ما جمعه، فتألم والدي وسال الدمع من عينيه وقال: (يا بني غدًا تجتمع أمة خير البشر أمام مولاها، ويحشر أهل الملة البيضاء حكماؤها والشهداء والعلماء والعصاة ويأتي هذا السائل المسكين صائحًا شاكيًا، فماذا أقول إذا قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله أودعك شابًا مسلمًا، فلم تؤدبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنسانًا، فانظر يا ولدي عتاب النبي الكريم ومقامي في خجلي بين الخوف
والرجاء، أتفضح أباك أمام مولاه؟! يا ولدي كن برعمًا في غصن المصطفى، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب).
بدأ إقبال التعليم في طفولته على يد والده، ثم أدخل كُتَّابًا ليتعلم القرآن، وانتقل إلى مدرسة (سيالكوت) ولما أتم دراسته الثانوية التحق بكليتها، فدرس اللغة الفارسية والعربية على يد أستاذه (مير حسن) ولفت الأنظار إليه بذكائه الشديد، وأخلاقه الكريمة؛ فاحترمه
الجميع؛ زملاؤه وأساتذته، وحصل على الكثير من الجوائز، ونال فرصة الدراسة مجانًا، وتخرج من الكلية عام 1897م.
وفي هذه الفترة ازداد تفكير محمد إقبال، وشعر بالألم والحسرة، فهو ينظر إلى المسلمين، فيراهم مستسلمين لأعدائهم، فتسيل الدموع من عينيه، وينشد قائلاً:
مسلمًا إن ترد حياة فيهـا
ما بغير القرآن تأتي الحياة
وفتحت كلية الحكومة في (لاهور) ذراعيها للشاب الذكي فتفوق على زملائه، وحصل على ميداليتين ذهبيتين، ثم حصل على درجة الماجستير في الآداب والفلسفة، ومن فوق منبر جمعية حماية الإسلام أخذ محمد إقبال يردد قصائده ويلقيها على السامعين، حتى اشتهر وأصبح معروفًا بين الناس، وظل يدافع عن الإسلام
والمسلمين، ويدعوهم إلى الكفاح والجهاد في سبيل الله، حتى تمَّ اختياره سكرتيرًا لجمعية حماية الإسلام.
والتقى (محمد إقبال) في كلية الحكومة بـ(لاهور) بأستاذه المستشرق (توماس أرنولد) وهو من كبار علماء الغرب الذين درسوا الإسلام عامة والتصوف خاصة، فكان يرشده ويعينه في الدراسة، وكان توماس يفخر بذكاء تلميذه، ويعتز بصداقته.
وبعد أن أنهى (محمد إقبال) دراسته الجامعية بـ(لاهور) عُيِّن أستاذًا للتاريخ والفلسفة والسياسة المدنية بالكلية الشرقية بـ(لاهور) ثم أستاذًا للفلسفة واللغة الإنجليزية في الكلية الحكومية التي تخرج
فيها، لكنه كان طموحًا يريد مزيدًا من العلم، ويتمنى أن يرى البلاد الأوربية ومضارتها؛ فسافر إلى أوروبا سنة 1323هـ/1905م حيث نال درجة في الفلسفة من جامعة (كمبردج) ودرجة في القانون من كلية لندن للعلوم السياسية، وعمل أستاذًا للغة العربية في جامعة
لندن، كما حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة (ميونيخ) بألمانيا، وعاد مرة أخرى إلى لندن، فلم يضيع وقته في العبث واللهو، بل نال شهادة المحاماة من جامعة لندن.
وهناك في بلاد الغرب كان محمد إقبال يدعو إلى دين الإسلام، ويدافع عنه دفاعًا صادقًا من خلال المقالات التي كان ينشرها والقصائد الشعرية التي كان يبدعها، وكان دائمًا يفخر بالإسلام الذي حرر الرءوس، وطهر النفوس، وأصلح الأرض وحصن العرض، ولم يعجبه الفسق والكفر الذي يعيش فيه الأوربيون، وقال لهم محذرًا: (يا أهل الغرب إن أرض الله ليست دار تجارة، ولسوف تنتحر حضارتكم بخنجرها؛ لأنها كالعش الذي بني على غصن ضعيف لا قوة له).
رجع إقبال إلى لاهور عام 1908م بعد رحلة استغرقت ثلاث سنوات، وبدأ العمل بالمحاماة، يدافع عن المظلومين، وعرف عنه في أثناء عمله بها أنه لا يقبل إلا قضايا الحق، كما عرف عنه أيضًا اقتداره في مهنته، وكان مؤهَّلا لبلوغ أعلى الدرجات فيها، لكنه ترك المحاماة وعمل أستاذًا للفلسفة واللغة الإنجليزية في الكلية الإسلامية في (لاهور) ثم استقال من منصب الأستاذية، واشتغل بالسياسة، فانتخب عام 1926م في الجمعية التشريعية في (بنجاب) وعمل في حزب الرابطة الإسلامية، ورأس المؤتمر السنوي لها في (إله آباد)
سنة 1930م، واشترك إقبال في مؤتمر المائدة المستديرة
عام 1931م،1932م في لندن للنظر في وضع دستور للهند.
وقد كان إقبال يحلم بإنشاء دولة إسلامية لمسلمي الهند، وسخر منه الناس حينئذ، ولكن تحققت فكرته بقيام دولة باكستان الإسلامية، زار (إقبال) كثيرًا من الدول الإسلامية، فزار مصر، وأفغانستان كما زار قرطبة، وصلى في مسجد قرطبة الشهير، وظل طيلة حياته المجيدة يدافع عن الإسلام والمسلمين في المحافل الدولية والمؤتمرات الإسلامية والكتب والأشعار التي أبدعها، ويحاول قدر طاقته إيقاظ المسلمين من
غفلتهم، ومساعدة الأمة الإسلامية على النهوض، وكان إقبال دائمًا يعطف على الفقراء والمساكين، يجلس معهم، ويهتم
بأمرهم، ويخالطهم في الطعام والشراب.
كما كان يدعو المسلمين إلى المشاركة في حركة الحضارة
والتقدم، وينبذ الفكر الذي يكتفي من الدين بالعلاقة بين العبد وربه في صورة العبادات، وكان له موقف أصيل من التصوف، يقوم على رفض التصوف الذي يخالف الكتاب والسنة ويتأثر بفلسفات
وثنية، كما رفض التصوف الذي يجعل من المسلم سلبيًّا لا يشارك في خدمة مجتمعه، ومقاومة الظلم والدفاع عن المسلمين وكان يسمى هذا اللون من التصوف بالتصوف الأعجمي.
وكان (إقبال) يدعو المسلمين إلى التمسك بدينهم، ثم بالعلم الذي هو السبب في تقدم الأمم، وبذل جهودًا كبيرة في الدعوة إلى وحدة المسلمين تحت راية الجامعة الإسلامية التي تضم المسلمين جميعًا مع اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم.
ولم يترك إقبال فرصة إلا نصح فيها إخوانه من المسلمين، فيخاطب المسلم ويقول له: (اقرأ مرة أخرى في سيرتك الأولى، اقرأ دروس الصدق والعدل والشجاعة، لأنك أنت المنشود؛ لتسود العالم مرة ثانية، أنت تملك العالم بالأخوة وتحكمه بالمحبة، ما الذي محا استبداد (قيصر) وشدة (كسرى)؟! أكانت هناك قوة في العالم تحارب الجبابرة سوى قوة (علي) كرم الله وجهه، وفقر (أبي ذر) وصدق (سليمان) رضي الله عنهم؟!)
وأبدع إقبال العديد من الدواوين الشعرية الرائعة منها:
(صلصلة الجرس) ونشر عام 1924م، ويحتوي على حوالي ستين قصيدة وقطعة نظمها في بداية شبابه حتى سفره إلى أوربا، بالإضافة إلى ثلاثين قصيدة نظمها في أوربا، وأهم قصائد هذا الديوان قصيدته الشهيرة: (طلوع الإسلام).
* (رسالة المشرق) : وهي رد على ديوان الشاعر الألماني (جوته).
* (زبور العجم): وهو ديوان من أروع ما كتب إقبال، وأهم قصائده: (حديقة السر الجديدة) وهي قصيدة في الحب الإلهي.
* (ما ينبغي أن نعمل يا أمم الشرق) وهي منظومات تدعو المسلمين إلى الاتحاد لمقاومة الاستعمار الأجنبي.
* (هدية الحجاز) وهو ديوان أغلبه يدور حول موضوعات هامة
مثل: الحديث عن الله وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الأمة وعن العلم الإنساني، وعن رفاق الطريق إلى الله، وأهم قصائد الديوان قصيدة تدور حول إبليس ومعاونيه.
ومن أهم مؤلفاته: (تطور الفكر الفلسفي في إيران) و(تجديد التفكير الديني في الإسلام) ومن شعره المترجم إلى العربية:
ملكنا هذه الدنيــا قرونــــا وأخضعها جدود خالدونـا
وسطرنا صحائف من ضياء فما نسى الزمان ولا نسينـا
وأجاد محمد إقبال الكثير من اللغات كـالأوردية، والفارسية والإنجليزية، والألمانية، وكان يعرف العربية، وتحمل كل هذا العناء لكي يزيل عن أمته ظلام الجهل والتأخر.
وبعد رحلة مريرة بما فيها من مصاعب، مباركة بخدمتها
المسلمين، تكالبت أمراض كثيرة على الشاعر الفيلسوف، فقد ضعف بصره، وأصابته آلام، وأزمات كثيرة نتيجة حصوات تكونت في الكلى، لكن المرض لم يقعده عن كتابة الشعر، وفي إبريل
سنة 1938م رحل(إقبال) وفاضت روحه التي أجهدها العناء الطويل في سبيل هداية البشر، وعلت شفتيه البسمة الهادئة فرحًا
بلقاء ربه.
وذاع خبر موت (إقبال)، ففجع الناس فيه، وصعقهم النبأ، وهزمهم الأسى، وعمهم الحزن، وكان يومًا عصبيًا في حياة جماهير الهند
عامة، والجماهير المسلمة خاصة، ونعاه قادة الهند وأدباؤها من المسلمين والهندوس على السواء.. رحم الله الفيلسوف الشاعر الذي أحدث برحيله فراغًا كبيرًا في عالمنا الإسلامي،رحم الله إقبال
القائل:
وَمَا فَتِـئ الزَّمَــانُ يَدُورُ حَتَّى
مَضَـي بِالمجْـدِ قَـوْمٌ آَخَـرُونـَا
وَأَصْبَـحَ لا يـُرَى فِي الـرَّكْبِ قَوْمِــي
وَقَــدَ عَاشُوا أَئِمَّتَـهُ سِنيِنَـــا
وَآلمنـِي وَآلَـمَ كُـلَّ حُـرِّ
سُـؤَالُ الـدَّهْـرِ أَيْـنَ المسْل[/color]ِمـُـونَا[/size]
ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب).
في (سيالكوت) تلك المدينة التي تقع بإقليم (البنجاب) بالهند، وُلِد (محمد إقبال) عام 1294هـ/1877م، وتفتحت عيناه على مناظر بلاده الجميلة، فالأنهار الجارية تنحدر بين التلال، والعشب الأخضر يملأ الأرض ويكسوها بهاء وجلالاً.
ينتمي محمد إقبال إلى أسرة هندوكية من البراهمة، وهي جماعة لها شأن كبير في الهند رغم أنها تعبد الأصنام وتقدس التماثيل، لكن أسرة
محمد إقبال تنازلت عن كل هذه العظمة، لتدخل في دين الإسلام الذي لا يفرق بين أبيض وأسود و أصفر أو أحمر إلا بالتقوى، وأصبح الجد الأكبر لمحمد إقبال واسمه (بنديت) فردًا عاديًا لا يدَّعي الألوهية كما يفعل البراهمة!! بعد أن هداه الله على يد أحد رجال الإسلام في (كشمير) وأنجبت الأسرة التي كانت بالأمس القريب تعبد الأصنام وتحتقر الآخرين (محمد إقبال) فيلسوف الإسلام الكبير
وشاعره، وفضلت الإسلام مع الفقر على عبادة الأصنام مع الغني والعظمة.
ونشأ إقبال في بيت طاهر لأبويين تقيين؛ فكانت أمه نموذجًا رائعًا للتقوى والورع والالتزام بتعاليم الإسلام، أما والده(محمد نور إقبال) فكان صوفيًّا زاهدًا، تدمع عيناه خوفًا كلما ذكرت الجنة
والنار، وكلما سمع عن يوم الحساب، والناس كلهم وقوف أمام الله عز وجل ليحاسبوا عما قدموه في حياتهم الدنيا من خير أو شر.
وكان هذا الوالد التقي هو المعلم الأول لمحمد إقبال، فقد حثَّه على قراءة القرآن وحفظه وتدبره منذ صغره، وكان يقول له كلما رآه يكثر من قراءة القرآن: إن أردت أن تفقه القرآن فاقرأه كأنه أنزل عليك، فأخذ إقبال منذ ذلك الحين يتدبر آيات القرآن الكريم، ويتفهم معانيه ويغوص في بحار علومه؛ حتى انطبع نور القرآن في قلبه، وفاض على لسانه، وأصبح دليله ومرشده في جميع خطوات حياته.
وقد ربَّي محمد نور الدين إقبال ولده (محمدًا) تربية إسلامية سليمة تعتمد على الكتاب والسنة والقدوة الحسنة، فكان يوقظ طفله الصغير ليصلى صلاة الفجر كل يوم، وكان يرشده دائمًا لعمل الخير والابتعاد عن الشر.. حكى إقبال في كتاباته قصة جليلة عن والده تكشف عن عمق إيمان الأب وعن أسلوب التربية الإسلامية الحقَّة، قال:
(جاء سائل، فطرق بابنا بعنف، فضربته بعصا على رأسه، فتناثر ما جمعه، فتألم والدي وسال الدمع من عينيه وقال: (يا بني غدًا تجتمع أمة خير البشر أمام مولاها، ويحشر أهل الملة البيضاء حكماؤها والشهداء والعلماء والعصاة ويأتي هذا السائل المسكين صائحًا شاكيًا، فماذا أقول إذا قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله أودعك شابًا مسلمًا، فلم تؤدبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنسانًا، فانظر يا ولدي عتاب النبي الكريم ومقامي في خجلي بين الخوف
والرجاء، أتفضح أباك أمام مولاه؟! يا ولدي كن برعمًا في غصن المصطفى، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب).
بدأ إقبال التعليم في طفولته على يد والده، ثم أدخل كُتَّابًا ليتعلم القرآن، وانتقل إلى مدرسة (سيالكوت) ولما أتم دراسته الثانوية التحق بكليتها، فدرس اللغة الفارسية والعربية على يد أستاذه (مير حسن) ولفت الأنظار إليه بذكائه الشديد، وأخلاقه الكريمة؛ فاحترمه
الجميع؛ زملاؤه وأساتذته، وحصل على الكثير من الجوائز، ونال فرصة الدراسة مجانًا، وتخرج من الكلية عام 1897م.
وفي هذه الفترة ازداد تفكير محمد إقبال، وشعر بالألم والحسرة، فهو ينظر إلى المسلمين، فيراهم مستسلمين لأعدائهم، فتسيل الدموع من عينيه، وينشد قائلاً:
مسلمًا إن ترد حياة فيهـا
ما بغير القرآن تأتي الحياة
وفتحت كلية الحكومة في (لاهور) ذراعيها للشاب الذكي فتفوق على زملائه، وحصل على ميداليتين ذهبيتين، ثم حصل على درجة الماجستير في الآداب والفلسفة، ومن فوق منبر جمعية حماية الإسلام أخذ محمد إقبال يردد قصائده ويلقيها على السامعين، حتى اشتهر وأصبح معروفًا بين الناس، وظل يدافع عن الإسلام
والمسلمين، ويدعوهم إلى الكفاح والجهاد في سبيل الله، حتى تمَّ اختياره سكرتيرًا لجمعية حماية الإسلام.
والتقى (محمد إقبال) في كلية الحكومة بـ(لاهور) بأستاذه المستشرق (توماس أرنولد) وهو من كبار علماء الغرب الذين درسوا الإسلام عامة والتصوف خاصة، فكان يرشده ويعينه في الدراسة، وكان توماس يفخر بذكاء تلميذه، ويعتز بصداقته.
وبعد أن أنهى (محمد إقبال) دراسته الجامعية بـ(لاهور) عُيِّن أستاذًا للتاريخ والفلسفة والسياسة المدنية بالكلية الشرقية بـ(لاهور) ثم أستاذًا للفلسفة واللغة الإنجليزية في الكلية الحكومية التي تخرج
فيها، لكنه كان طموحًا يريد مزيدًا من العلم، ويتمنى أن يرى البلاد الأوربية ومضارتها؛ فسافر إلى أوروبا سنة 1323هـ/1905م حيث نال درجة في الفلسفة من جامعة (كمبردج) ودرجة في القانون من كلية لندن للعلوم السياسية، وعمل أستاذًا للغة العربية في جامعة
لندن، كما حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة (ميونيخ) بألمانيا، وعاد مرة أخرى إلى لندن، فلم يضيع وقته في العبث واللهو، بل نال شهادة المحاماة من جامعة لندن.
وهناك في بلاد الغرب كان محمد إقبال يدعو إلى دين الإسلام، ويدافع عنه دفاعًا صادقًا من خلال المقالات التي كان ينشرها والقصائد الشعرية التي كان يبدعها، وكان دائمًا يفخر بالإسلام الذي حرر الرءوس، وطهر النفوس، وأصلح الأرض وحصن العرض، ولم يعجبه الفسق والكفر الذي يعيش فيه الأوربيون، وقال لهم محذرًا: (يا أهل الغرب إن أرض الله ليست دار تجارة، ولسوف تنتحر حضارتكم بخنجرها؛ لأنها كالعش الذي بني على غصن ضعيف لا قوة له).
رجع إقبال إلى لاهور عام 1908م بعد رحلة استغرقت ثلاث سنوات، وبدأ العمل بالمحاماة، يدافع عن المظلومين، وعرف عنه في أثناء عمله بها أنه لا يقبل إلا قضايا الحق، كما عرف عنه أيضًا اقتداره في مهنته، وكان مؤهَّلا لبلوغ أعلى الدرجات فيها، لكنه ترك المحاماة وعمل أستاذًا للفلسفة واللغة الإنجليزية في الكلية الإسلامية في (لاهور) ثم استقال من منصب الأستاذية، واشتغل بالسياسة، فانتخب عام 1926م في الجمعية التشريعية في (بنجاب) وعمل في حزب الرابطة الإسلامية، ورأس المؤتمر السنوي لها في (إله آباد)
سنة 1930م، واشترك إقبال في مؤتمر المائدة المستديرة
عام 1931م،1932م في لندن للنظر في وضع دستور للهند.
وقد كان إقبال يحلم بإنشاء دولة إسلامية لمسلمي الهند، وسخر منه الناس حينئذ، ولكن تحققت فكرته بقيام دولة باكستان الإسلامية، زار (إقبال) كثيرًا من الدول الإسلامية، فزار مصر، وأفغانستان كما زار قرطبة، وصلى في مسجد قرطبة الشهير، وظل طيلة حياته المجيدة يدافع عن الإسلام والمسلمين في المحافل الدولية والمؤتمرات الإسلامية والكتب والأشعار التي أبدعها، ويحاول قدر طاقته إيقاظ المسلمين من
غفلتهم، ومساعدة الأمة الإسلامية على النهوض، وكان إقبال دائمًا يعطف على الفقراء والمساكين، يجلس معهم، ويهتم
بأمرهم، ويخالطهم في الطعام والشراب.
كما كان يدعو المسلمين إلى المشاركة في حركة الحضارة
والتقدم، وينبذ الفكر الذي يكتفي من الدين بالعلاقة بين العبد وربه في صورة العبادات، وكان له موقف أصيل من التصوف، يقوم على رفض التصوف الذي يخالف الكتاب والسنة ويتأثر بفلسفات
وثنية، كما رفض التصوف الذي يجعل من المسلم سلبيًّا لا يشارك في خدمة مجتمعه، ومقاومة الظلم والدفاع عن المسلمين وكان يسمى هذا اللون من التصوف بالتصوف الأعجمي.
وكان (إقبال) يدعو المسلمين إلى التمسك بدينهم، ثم بالعلم الذي هو السبب في تقدم الأمم، وبذل جهودًا كبيرة في الدعوة إلى وحدة المسلمين تحت راية الجامعة الإسلامية التي تضم المسلمين جميعًا مع اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم.
ولم يترك إقبال فرصة إلا نصح فيها إخوانه من المسلمين، فيخاطب المسلم ويقول له: (اقرأ مرة أخرى في سيرتك الأولى، اقرأ دروس الصدق والعدل والشجاعة، لأنك أنت المنشود؛ لتسود العالم مرة ثانية، أنت تملك العالم بالأخوة وتحكمه بالمحبة، ما الذي محا استبداد (قيصر) وشدة (كسرى)؟! أكانت هناك قوة في العالم تحارب الجبابرة سوى قوة (علي) كرم الله وجهه، وفقر (أبي ذر) وصدق (سليمان) رضي الله عنهم؟!)
وأبدع إقبال العديد من الدواوين الشعرية الرائعة منها:
(صلصلة الجرس) ونشر عام 1924م، ويحتوي على حوالي ستين قصيدة وقطعة نظمها في بداية شبابه حتى سفره إلى أوربا، بالإضافة إلى ثلاثين قصيدة نظمها في أوربا، وأهم قصائد هذا الديوان قصيدته الشهيرة: (طلوع الإسلام).
* (رسالة المشرق) : وهي رد على ديوان الشاعر الألماني (جوته).
* (زبور العجم): وهو ديوان من أروع ما كتب إقبال، وأهم قصائده: (حديقة السر الجديدة) وهي قصيدة في الحب الإلهي.
* (ما ينبغي أن نعمل يا أمم الشرق) وهي منظومات تدعو المسلمين إلى الاتحاد لمقاومة الاستعمار الأجنبي.
* (هدية الحجاز) وهو ديوان أغلبه يدور حول موضوعات هامة
مثل: الحديث عن الله وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الأمة وعن العلم الإنساني، وعن رفاق الطريق إلى الله، وأهم قصائد الديوان قصيدة تدور حول إبليس ومعاونيه.
ومن أهم مؤلفاته: (تطور الفكر الفلسفي في إيران) و(تجديد التفكير الديني في الإسلام) ومن شعره المترجم إلى العربية:
ملكنا هذه الدنيــا قرونــــا وأخضعها جدود خالدونـا
وسطرنا صحائف من ضياء فما نسى الزمان ولا نسينـا
وأجاد محمد إقبال الكثير من اللغات كـالأوردية، والفارسية والإنجليزية، والألمانية، وكان يعرف العربية، وتحمل كل هذا العناء لكي يزيل عن أمته ظلام الجهل والتأخر.
وبعد رحلة مريرة بما فيها من مصاعب، مباركة بخدمتها
المسلمين، تكالبت أمراض كثيرة على الشاعر الفيلسوف، فقد ضعف بصره، وأصابته آلام، وأزمات كثيرة نتيجة حصوات تكونت في الكلى، لكن المرض لم يقعده عن كتابة الشعر، وفي إبريل
سنة 1938م رحل(إقبال) وفاضت روحه التي أجهدها العناء الطويل في سبيل هداية البشر، وعلت شفتيه البسمة الهادئة فرحًا
بلقاء ربه.
وذاع خبر موت (إقبال)، ففجع الناس فيه، وصعقهم النبأ، وهزمهم الأسى، وعمهم الحزن، وكان يومًا عصبيًا في حياة جماهير الهند
عامة، والجماهير المسلمة خاصة، ونعاه قادة الهند وأدباؤها من المسلمين والهندوس على السواء.. رحم الله الفيلسوف الشاعر الذي أحدث برحيله فراغًا كبيرًا في عالمنا الإسلامي،رحم الله إقبال
القائل:
وَمَا فَتِـئ الزَّمَــانُ يَدُورُ حَتَّى
مَضَـي بِالمجْـدِ قَـوْمٌ آَخَـرُونـَا
وَأَصْبَـحَ لا يـُرَى فِي الـرَّكْبِ قَوْمِــي
وَقَــدَ عَاشُوا أَئِمَّتَـهُ سِنيِنَـــا
وَآلمنـِي وَآلَـمَ كُـلَّ حُـرِّ
سُـؤَالُ الـدَّهْـرِ أَيْـنَ المسْل[/color]ِمـُـونَا[/size]